الدرويش والموت
عبد الله الدرويش/
إجازة في النقد والأدب
تجربة الموت التي يعيشها أهل الروحانيات تدفع المرء للرقي الروحي، والسمو
على متطلبات الجسد مما يشد أزر النفس، ويعزز من مكانتها ووجودها بين أبناء المجتمع
الإنساني.
وهذا ما حاول إيصاله الروائي محمد ميشا
سليموفيتش Mehmed Meša Selimović
(١٣٢٨ - ١٤٠٢ هـ / ١٩١٠ - ١٩٨٢ م) الأديب اليوغوسلافي، في أثره: «الدرويش والموت».
ولد في مدينة توزلا في جمهورية البوسنة والهرسك وتوفي في بلغراد عام 1982 وشارك
في حرب التحرير الشعبية 1941-1945 وأشرف على عدة مجلات أدبية، وفصل من عمله وتشرد وبقي
لفترة طويلة بلا عمل.
أهم مجموعاته القصصية فهي «الرجل المستاء» و»الكتيبة الأولى» و»الضباب وضوء
القمر» و»الفتاة ذات الشعر الأحمر».
وأبرز رواياته: «القلعة» و»الجزيرة» و»السكينة» ورواية «الدائرة» التي لم يكمل
كتابتها.
وفي رواياته تظهر معالم سيرته الذاتية وحياته المعقدة وخلافه مع الحزب والدولة،
حيث كان عضواً في الحزب الشيوعي وفصل منه وأبعد عن الحياة العامة لخلاف مع زوجته الأولى
عضوة الحزب الشيوعي التي تقدمت بشكوى إلى محكمة حزبية اتخذت قراراً بفصله من الحزب،
بعد أن كلف بطلب من الحزب بإعداد تقرير عن الأدباء اليوغوسلاف الذين لم يشاركوا في
حرب التحرير الشعبية (1941-1945) فأوصى ببراءتهم وعدم ملاحقتهم عما فعلوا وغض النظر
عن بعض نزواتهم في وقت كانت إيحاءات الحزب تتضمن طلباً مبطناً بإدانتهم ومحاكمتهم.
ونرى حضور سيرته الذاتية في كتاباته إذ أحد أبطال روايته هو نفس شقيقه الذي
أعدمه (البارتيزان - قوات الأنصار) بسبب خطأ صغير ارتكبه أثناء الحرب وحوكم بتهمة الخيانة،
مما أحدث جرحاً في نفسه وولَّد في ذاته حسرة وقهراً وغضباً، عبّر عنه بصياغات أدبية
تكشف عن مرارته الشخصية.
وفي رواية «القلعة» لحظة من تجربته الحياتية، فبعد أن عاد من الحرب وجد نفسه
في صدام وصراع مع السلطة الجديدة، فأبعدته وحاصرته مثل غيره من أبطال الحرب حتى وجد
نفسه منبوذاً يتردد على الأبواب تماما كما حصل مع سليموفيتش نفسه في فترة معينة من
حياته.
نشرت رواية (الدرويش والموت) لأول مرة في سراييفو عام 1966 وترجمت إلى لغات
عدة كالانجليزية والروسية والفرنسية والإيطالية، وإلى العربية من قبل أحمد إسماعيلوفيتش
وحسين عبداللطيف. وهي الرواية الأولى التي تترجم مباشرة من اللغة الأصلية (اليوغسلافية)
إلى العربية. صدرت في القاهرة في 1971 ثم في طرابلس الغرب 1982, وقد تحولت أولاً إلى
فيلم يوغوسلافي بعنوان «الدرويش والموت»، ثم تحولت في عام 2000 إلى فيلم إيطالي بعنوان
«درويش» من إخراج البيرتو روندالي شارك في 2001 في مهرجان لوكانو السينمائي الدولي.
تكمن أهميتها في نجاح مؤلفها في تحويل تجربته الشخصية إلى تجربة إنسانية تمثل
العلاقة مع السلطة المتعسفة تحت اسم الدين أو الإيديولوجيا. جمع فيها ما بين تجربته
الشخصية والتجربة الإنسانية للعنف الأعمى الذي تمارسه السلطة ضد الأفراد الذي قد يبدو
مفهوماً أحياناً وغير مفهوم بالمرة أحياناً أخرى. فقد كان يشارك في «حرب التحرير الشعبية»
أخوه أيضاً، الذي لم يمنع انتماؤه للحزب الشيوعي وإخلاصه له واشتراكه في القتال من
أن تلفق له تهمة من الرفاق وأن يعدم فوراً من دون محاكمة. بطل الرواية أحمد نور الدين
شيخ الطريقة المولوية في المدينة، التي تعلم فيها الطاعة المطلقة للسلطة العليا (تماماً
كما في الحزب الشيوعي) إلى أن لفقت لأخيه هارون الذي يعمل كاتباً لدى القاضي تهمة كاذبة
كانت كافية لسجنه وإعدامه. لا يسمح الشيخ أحمد نور الدين لنفسه في أن يشك في السلطة
العليا، التي تعلم أن تكون مرادفة للعدل، ولكنه مع إصراره على فهم ما حدث يكتشف أن
أخاه اعتقل وأعدم بعد أن اكتشف بعض أسرار السلطة. وقد جعل هذا البحث أو الاقتراب من
السلطة الشيخ نور الدين يتمرد في داخله ثم يغرق في السلطة ويمارس العنف بدوره ضد أقرب
الأصدقاء لديه. وهكذا بتحول الشيخ أحمد من مشروع متمرد على السلطة إلى مشارك في السلطة،
وبالتحديد في العنف الذي تمارسه السلطة ضد الأفراد بمختلف المسميات.
ولعل روايته هذه تشير إلى أثر الحروب والنزاعات في صناعة أدب متميز يقف فيه
المتسلطون على أشلاء ضحاياهم، وأرجلهم على صفاح رقاب أحبابهم ورفاقهم.
Abd-drwesh@outlook.com